أجوب الشّوارع كلّ يوم أفتّش هنا وهناك، أستمع لقصص وروايات تحكيها قلوب تائهة باحثة عن قلب يسمعها. وفي كلّ مرّة أمرّ فيها
أمام أحد المقاهي أجدُ كرسيّاً فارغاً يناديني ليَروي لي قصّة تُثقِل كاهله، لكنّي أتركه وأقرِّر الرّحيل.
إلّا أنّي في أحد الأيّام بَدا لي ذلك الكرسي صارخاً، فجلست عليه وبدأ يقصّ عليّ رواية رَجُل اعتاد أن يزوره كلّ يوم، ويجلس عليه بالسّاعات شارداً تائهاً كأنّه بلا مأوى، يطلب فنجاناً من الشّاي ثمّ يبدأ بالتّحدّث معه.
قصّة هذا الرّجُل جعلتني أحزن وأتألّم، فحياته كئيبة مظلمة، متزوِّج وله أطفال لكنه فضّل التّشرّد في الشّوارع عن المكوث مع زوجته.
رغم كَونه الرّجُل المثالي في نظر النّاس - فهو يذهب للعمل باكراً ويتحمّل مشقّة الحياة وهمّه الوحيد تلبِية احتياجات عائلته، بل وفي هذه الحياة القاسية التي نعيشها عليه أن يعمل أكثر كي يُوفّر الحياة السّعيدة لعائلته - إلّا أنّ زوجته لا تفكّر في ذلك فهي دائمة الاستياء من تأخّره ومن عدم وجوده إلى جانبها ومساندته لها. تخيّل صديقي، قال لي الكرسي مُعبِّراً عن حَيرته، حتّى في يوم راحته تفتتح صباحه بصُراخ طالبةً منه الخروج والمَرَح وهو في أشدّ الحاجة للرّاحة. قُل لي، كيف له أن يدخل إلى بيته ليسمع صراخ الأطفال وصراخ والدتهم، ليرى المرأة التي تزوّجها وقد نَسِيَت دورها وتقمّصت دور الخادمة. كيف له أن يَستكين في بيت لا يرى فيه الوجه المريح الجميل، لا يسمع فيه الصّوت الهادئ، لا يتلامس فيه مع تلك الإنسانة التي ارتضت بأن تكون له زوجة، الإنسانة المهتمّة بنفسها التي عَشِقَتْها عيناه منذ التقاها!.
كيف ستتولّد لديه الرّغبة بالعودة إلى بيت، لا يسمع فيه كلمات الاحترام والتّقدير التي يحتاجها لقاء تعبه ومجهوده، لا ترنّ في أذنه سوى كلمات محتواها طلبات وتهكّمات واستياءات ومشاكل؟
هل يمكن له أن يعود إلى تلك الفوضى التي بات يحياها أبداً، وإلى ذلك الانحسار الأناني الذي تعيشه زوجته؟
لكن صديقي، لم يَحكِ لي رَجُلنا المظلوم هذا، القصّة الثّانية التي بطلتها الإنسانة التي تشاركه منزله، نعم ذَكَرها كثيراً لكنّه لم يروِ قصّتها.
إنّها زوجته، التي تلعب دور الخادمة والتي أحبّت وحَلُمت بأنّها ستُكوِّن أسعد أُسرة، أُسرة ستجد فيها شريك حياتها متواجداً وحاضراً إلى جانبها، يحبّها، يقدّر تعبها، يحترمها ويحمل المسؤوليّة معها.
لكنّها صُدِمت بحقيقة كونها امرأة تعمل لتساند زوجها، ثمّ تعود لتحمل مسؤوليّة أطفالها وبيتها وواجباتها لوحدها. صُدِمَت حين وجدت نفسها مَرميّة وسط فوضى عارمة، لا توجد يدٌ ممدودة لمساعدتها ولا رَجُلٌ تستند عليه وسط فوضى حياتها.
لا بل ما صعّبَ عليها حياتها هو أنّها تحوّلت لتصير تلك الشّخصيّة المسيطِرة المتحكِّمة، فلو لم تقبل بتمثيل ذلك الدّور كان بيتها سيُدمًّر ويصبح كحديقة بلا أسوار. كذلك تحطّمت أحلامها وأصبحت هي المسؤولة عن تعاسة من أحبّته بدلاً من سعادته، والآن هي المُطالَبة بفعل كلّ شيء لأنّها المُتسبِّبة الوحيدة بما تعيشه عائلتها من سَواد الحياة.
ما رأيك صديقي، هذه قصّته وتلك قصّتها. هو استطاع الهَرَب من بيته ووَجَدني أنا الكرسي الفارغ ليجلس عليه، وسط دخان السّجائر ورائحة التّبغ وصوت حجارة الدّومينو، ليُؤنس وحدته. وهي هربت داخل نفسها لتعيش ألمَها وحدها، فمسؤوليّاتها الضّخمة وأُمومتها والتزامها يمنعونها من الرّحيل.
لذلك ... خذني صديقي، احملني معك إلى بيتك، لا تجلس عليّ هنا أمام هذا المقهى الكئيب. دعني أرحل معك إلى منزلك، خذني وضَعني بجانب كرسيِّها الذي يستمع لألَمِها.
خذني كي تجلسا معاً بجانب بعضكما البعض وتستمعا وتتشاركا معاً آلامكما. تعرِفا احتياجاتكما وصعوبة الحياة التي تخوضاها معاً. لا تدعني طَرَفاً بعيداً وكأنّي في جبهة حرب وكرسيِّها في الجبهة الأُخرى.
خذني لأنّ عليكما أن تسترِدّا ما فُقِدَ منكما من حُبٍّ، خذني معك لأنّ عليكما تعلُّم الإصغاء والسّيْر في دروب الشّراكة ورأب الصّدع الذي فرّق بينكما، والوصول إلى جسور التّواصُل والنّموّ والتّغيير. خذني إليها فأنتما فريقٌ واحد، معاً تتحمّلان المسؤوليّة المشتركة، تمسّكا بمسئوليّتكما وببعضكما.
خذني معك لأنّ صراعك معها دليل حُبِّك لها وحُبّها لك. برهان رغبتكما العميقة بالبحث عن التّغيير والتّجديد حتّى الوصول لهما. خذني فالهروب ليس الحلّ، بل المواجهة بحُبّ وغفران وإصغاء وقبول لاحتياجات الآخَر المستقلّة.
أخذتُ أفكِّر، ما هذا ومع من يحكي هذا الكرسي؟ أ تُراه يحدّثني أنا، ويروي قصّتي وقصّة زوجتي؟ أ أنا صاحب القضيّة والمأساة؟
ابتسمتُ، تركتُ الكرسي ولم آخذه. تركته لعلّ مُتعَباً آخر يجلس عليه، فيحكي له قصّته كما فعلَ معي ويعيده إلى صوابه. قرّرتُ شراء كَنَبة بكرسيّين كي نجلس عليها معاً أنا وزوجتي. أسرعتُ إلى منزلي وأنا أفكّر، ماذا عن قصص النّاس؟ ماذا عمّنْ نَدينهم دوماً ونلومهم؟ ماذا عن الرّاقصة وعمّن يسكر بجنون؟
أ لست معي في أنّ نظرات الحيرة والتّعب والصّراع والتّنهّد التي في عيون أولئك المتعَبين، تُخفي قصصاً جديدة لها بُعد آخَر أعمق ممّا تُدركه العَين؟
واجِه وأَصغِ ولا تهرب من بيتك.