كُلُّنا يعلم أنّ الإنسان يتمتّع بخِصالٍ حميدةٍ وأُخرى غير حميدة، والأنانيّة هي إحدى الصّفات غير الحميدة بل المذمومة لدى الإنسان.
فما هي الأنانيّة؟ ولماذا لها هذا الدَّور السّلبي في المجتمع؟
تعريف الأنانيّة: هي حُبّ الذّات المُطلَق والشّديد حتّى ولو على حساب الآخَرين، وبغضّ النّظر عن الأذى الذي يمكن أن يلحق بهم. هذا الحُبّ الفردي يخلق في الإنسان الأناني رغبة ذاتيّة وغيرة جنونيّة للسّيطرة على الآخَر وامتلاك ماهو له بدون حقّ، حتّى يصل لدرجة حرمان الآخَر من كلّ شيء يمتلكه وانتزاعه منه حتّى لو لم يكُن الأناني بحاجة لهذا الشّيء. كلّ ما سبق يُسبّب العَداء بين النّاس مع كلّ ما يندرج معه من: الغرور والتّكبّر - الاتّكاليّة - إراحة النّفْس والصّعود على أكتاف الآخَرين بضمير ميّت وبدون مبالاة _ الحسد والكُره والحقد - الطّمع والجشع - وأمور أُخرى كثيرة.
أشكال الأنانيّة:
للأنانيّة أشكال كثيرة منها:
(1) أنانيّة التّفكير: كلّ إنسان منّا يفكّر في أيّ أمر مطروح أمامه من وجهة نظر شخصيّة للغاية، بحسب ثقافته ونشأته وظروفه الخاصّة، ودائماً تفكيره هذا يتّفق مع مصلحته ويصبّ فيها. حتى أنّك لو طرحت موضوعاً ما للمناقشة على عشر أشخاص لوجدت عشر وجهات نظر مختلفة للموضوع الواحد!!. ومن الصّعب جدّاً أن تتطابق وجهَتَي نظر تمام التّطابُق، ومن الصّعب أن تجعل شخصاً منهم ينظر للموضوع من وجهة نظر شخص آخَر. فلكلّ واحد وجهة نظره التي تتّفق مع أسلوب تفكيره «الأناني»، أي المصبوغ بصبغة الذّات أو «الأنا». فمثلاً لو طرحتَ على الرِّجال في مجتمع شرقيّ موضوعاً مثل خروج المرأة للعمل، أو الملابس التي ترتديها خارج المنزل أو حقّها في طلب الطّلاق أو الخُلع من زوجها، لوجدتَ أنّ وجهة نظرهم ستكون متشدِّدة بصفة عامّة، حتى لو تباينت في شدّتها من رَجُل لآخَر بحسب الثّقافة والظّروف الخاصّة. أمّا إذا طرحتَ الموضوع ذاته على النّساء، فستكون وجهة نظرهنّ مختلفة كلّ الاختلاف. لأنّ الرَّجُل يفكّر في هذه الأمور من منطلق إحساسه ومصلحته كرَجُل، والمرأة أيضاً تنظر إليها في ضوء أحاسيسها ومصلحتها الخاصّة، ومن الصّعب _ إن لم يكن من المستحيل _ أن تجعل وجهات النَّظر هذه تتطابق.
كثيراً ما نرى رؤساء الدُّول يجتمعون لمناقشة موضوعات دوليّة مهمّة، ولكنّنا نادراً ما نراهم يتّفقون على رأي واحد يلتزمون به، والسّبب هو أنّ كلّ دولة تنظر للأمر في ضوء مصلحتها وعلاقاتها الخاصّة. ومصالح هذه الدُّول تتشابك وتتعارض كثيراً ولا تتّفق إلاّ نادراً، ولذلك قليلاً ما نرى اجتماعات القمّة هذه تتمخّض عن قرارات ذات قيمة واستمراريّة.
والجدير بالملاحظة أنّ كلّ طرف يكون مقتنعاً بوجهة نظره إلى حدّ اليقين ولا يستطيع أن يقبل بغيرها، ومن الصّعب أن يتزحزح أيّ طرف عن وجهة نظره لأنّ وجهة نظره هي إحدى سِمات ذاته وكينونته، وهو يشعر أنّ تنازله عن رأيه هو تنازل عن كيانه ووجوده، وبالأكثر في مجتمعاتنا الشّرقيّة التي تربَّت على أنّ الشّخص القوي هو من يفرض رأيه على كلّ المحيطين به ولا يخضع لرأي الآخَرين، وأنّ من سمات الرُّجولة ثبات الرّأي وعدم تغيّره (حتّى بعد اكتشاف خطئه)!!، بينما في بعض المجتمعات الأُخرى يتربَّى الإنسان على احترام حقوق الآخَرين ومن ضمنها حقّ التّفكير وإبداء الرّأي، وأنّه لا يُعيب الإنسان أن يُصغي للآخَرين ويتعلَّم من وجهات نظرهم، وأنّ الأفضل ليس هو مَن يفرض رأيه على الآخَرين بل مَن يستخلص المفيد من كلّ آراء الآخَرين ويكوِّن رأياً يكون الأصلح لجميع الأطراف.
(2) أنانيّة التّصرُّف: من البديهي أن تتشكّل تصرّفات النّاس بحسب أسلوب تفكيرهم، وإذا كان التّفكير «أناني» فلابدّ أن تتّسم كلّ التّصرّفات بالأنانيّة. قد يتجمّل الإنسان أمام الآخَرين ويتشدّق بكلمات المحبّة والتّضحية والإيثار، ولكن في وقت المحكّ العملي تجده يتصرّف وفق مصلحته وحدها. وتزداد هذه الظّاهرة وضوحاً في وقت الخطر والأزمات، فعندما يتعرّض الإنسان للخطر ويُخيَّر بين أن يُنقذ نَفْسه أو شخصاً آخَر تجده بتلقائيّة شديدة يختار نَفْسه، حتّى أنّ العامّة صاغوا هذه الحقيقة في مثل شائع يقول: "جالك الطّوفان حطّ ولدك تحت رِجلِيك!!".
(3) أنانيّة المشاعر: عندما يُحبّ الإنسان شخصاً آخَر نجده يحاول أن يمتلكه ويضيفه إلى صميم ذاته، ويبدأ يتعامل مع هذا الشّخص كما لو أنّه صار من متعلّقاته الشّخصيّة، ولو تصرّف هذا الشّخص ببعض الحريّة والاستقلاليّة، فستَعتمل بداخل المُحبّ ثورة من الغضب والعنف قد تجرح وتدمِّر المحبوب. ونُسمّي هذه المشاعر عادة بمشاعر «الغيرة»، التي ما هي إلاّ التّعبير عن أنانيّة المشاعر وحُبّ الامتلاك. الأُمّ تتعامل مع أبنائها كما لو كانوا ملكيّة خاصّة بها ولا تريدهم أن يستقِلّوا عنها حتّى بعد الزّواج. الزّوج أيضاً يتعامل مع زوجته بالأسلوب نَفْسه، والعكس بالتّأكيد صحيح. وهذه المشاعر قد تختلف في قوّتها وعمقها من شخص لآخَر، لكن كلّ واحد فينا لابدّ أن يعترف أنّه «أناني» بدرجة أو بأُخرى!!.
القليل من الأنانيّة... ضروري!!
لكي نكون واقعيّين لابدّ أن نعترف أنّنا نحتاج إلى القليل من الأنانيّة في حياتنا، لأنّ هذا القدر الضّروري من الأنانيّة هو الذي يشكِّل لكلّ واحد منّا شخصيّته الخاصّة به. فتميُّز الفرد في المجتمع ينشأ من تميُّز أسلوب تفكيره وتصرّفاته ومشاعره، ولو فقد الإنسان كلّ إحساسه بذاته لفَقَد سِمات شخصيّته، وصار مِسخاً بلا ملامح لا يشعر أحد بوجوده في وسط المجتمع. ولو تبنَّى الإنسان وجهات نظر الآخَرين على طول الخطَ لصار نَكِرة لا يعتدّ به أحد. فالقدر الطّبيعي من «الأنا» ضروري ليكون الفرد متميِّزاً مفيداً لمجتمعه. وبناء على هذه الحقيقة نكون جميعاً بلا استثناء «أنانيّين» بشكل أو بآخَر، فلا يمكن لأيِّ إنسان مُنصِف أن يدَّعي أنّه ليس أنانيَاً بدرجةٍ ما!!.
لكن الكثير من الأنانيّة ... ضارّ جدّاً!!
ما ينبغي أن نحذِّر منه هو أن لا يزيد قدر الأنانيّة بداخلنا عن حدوده الطّبيعيّة، ويصبح كما أوردنا سابقاً في المقدّمة. أي يزيد إحساس الفَرد بذاته حتّى يطغى على إحساسه بذات الآخَرين، فلا يستمع إلّا لصوت نَفْسه ولا يقتنع إلاّ بفكره ولا يتصرّف إلاّ لمصلحته حتّى لو داسَ على مصالح غيره. وعندئذ تصير الأنانيّة وَبالاً على الفرد والمجتمع، لأنّها تجعل كلّ واحد يعيش في جزيرة منعزلة لا يشعر فيها إلاّ بنَفْسه ولا يرى إلاّ ذاته، وبالتّالي يتفكّك المجتمع وتنقطع الرّوابط بين أفراده وتصير العلاقات بينهم تنافسيّة وليست تكامُليّة، حيث يسعى الفرد إلى فرض إرادته ومصلحته على الآخَرين بدلاً من محاولة البحث عن مصلحة المجموع، ممّا يؤدّي لنشر الرّذائل في المجتمع مثل الغيرة والكذب والخداع والعنف والاغتصاب ... إلخ. هذه الصّورة السّلبيّة للأنانيّة ليست فقط ضارّة للفرد والمجتمع، لكنّها أيضاً تتعارض مع فكر الله وإرادته الصّالحة التي أعلنها لنا في كتابه المقدّس.
ماذا يقول الكتاب المقدّس عن الأنانيّة؟
يعلِّمنا الكتاب أنّ الله يحترم ذاتيّة الإنسان ويشجِّع تميُّزه وتفرُّده، حتّى أنّه خلق الإنسان مُتميِّزاً عن سائر المخلوقات بالإرادة الحرّة والقدرة على التّفكير والإبداع، ورغم أنّ الله هو الخالق العظيم إلاّ أنّه لا يفرض إرادته على خليقته بل يترك لنا حريّة التّفكير واتّخاذ القرارات سواء كانت صحيحة أم خاطئة (سِفر الرّؤيا 3: 20
). وهو يعرف كلّ واحد منّا بِاسْمه الخاصّ أي بِسِماته الشّخصيّة (إشعياء 43: 1
ولوقا 10: 20
). والرّبّ يسوع استخدم كثيراً في أحاديثه ضمير المُتكلِّم «أنا» لكن بشكل إيجابي وصادق وبدون أيّ تعالٍ على الآخَرين أو تعدٍّ على حقوقهم.
من النّاحية الأُخرى يرفض الكتاب تماماً أن يتحوّل إحساسنا بأنْفُسنا إلى أنانيّة سلبيّة هدّامة. فنراه يحثّنا على «إنكار النَّفْس» الذي هو على العكس تماماً من الأنانيّة (متّى 16: 24
). فإنكار النَّفْس هو عدم البحث عن مصلحة أنْفُسنا فقط بل عن مصلحة الآخَرين أيضاً. وقد أعطانا الرّبّ يسوع نَفْسه نموذجاً يُحتذى به في إنكار النَّفْس عندما رأيناه طوال حياته يتنازل عن راحته لأجل خدمة الآخَرين وراحتهم، فرأيناه يسير ساعات طويلة ليتقابل مع نَفْس مُتعَبة ليريحها ({يوحنّا 4: 6| 6وَكَانَتْ هُنَاكَ بِئْرُ يَعْقُوبَ. فَإِذْ كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ السَّفَرِ، جَلَسَ هكَذَا عَلَى الْبِئْرِ، وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ}). ورأيناه ينحني عند أقدام تلاميذه ليغسلها (يوحنّا 13: 5
). بل فوق كلّ شيء رأيناه يحمل الصّليب ويَقبل الموت لأجل أن يمنحنا الحياة الأبديّة كما نقرأ في رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 5: 6 - 8
.
فِكْر الله الصّالح لنا هو أن نشعر بأنْفُسنا في الحدود الإيجابيّة البنّاءة، دون أن نتحوّل إلى الأنانيّة التي تُدمِّر علاقتنا بالآخَرين. وأن نسعى لبُنيان أنْفُسنا بكلّ طريقة مُمكِنة ومشروعة، دون أن نُهمل فائدة وبُنيان الآخَرين أيضاً. وأن نُدرك أنّ نجاحنا هو من نجاح الآخَرين وسعادتنا من سعادة الآخَرين وأمنَنا مِن أَمْنِ الآخَرين، فنحن لا نعيش في جزيرة مُستقلّة بل نحن جزء من مجتمع، سواء كان هذا المجتمع هو البيت أو العمل أو مكان العبادة أو الدّولة.
فهل جرَّبتَ أن تطلب من الله أن يساعدك لكي تساعد الآخَرين وتبنيهم وتُميِّزهم، حتّى لو تطلَّب الأمر أن يكونوا أفضل منك؟!. هل طلبتَ من الله أن تكون عضواً نافعاً للمجتمع الذي تعيش فيه حتّى لو تطلّب الأمر أن تبذل تضحية ما في سبيل أن تجلب سعادة للآخَر؟!.
كتبه د. فخري كرم
إذا كان لديك عزيزي القارىء أيّة مشكلة تحبّ أن تشاركنا بها، وتحبّ أن نصلّي لأجلك .. اتّصل بنا