شادي، شابٌّ قد يكون في عمرك، يدرس في الجامعة ربّما في جامعتك، يعيش في مصر الجديدة لعلّه الحيّ نفسه الذي تعيش فيه، ملامحه سمراء قريبة من ملامحك وتفاصيل وجهه أقرب إلى تفاصيلك وجهك.
لكن قد يختلف في لون عينيه عنك. إذ للون عينيه الأزرق بريق غريب يُريك فيه كلّ التّناقضات، الحزن والفرح والألم والضّحك والجدّ واللّعب. هو وحيد والده وحبيب أُمِّه المدلَّل، له الحقّ في أخذ ما يشاء متى يشاء ممّن يشاء، لديه الجامعة والعربيّة (السّيّارة) والأصحاب، وكلّ ما يمكن أن يصل إليه. ولأنَّه الغالي والمحبوب، كان الوالدان يتعاطفان معه، ويُلبِّيان طلبه وهما لم يبخلا بأن يوافقا عندما طلب منهما مبلغاً كبيراً كي يستقلّ بنفسه ويعيش لوحده في بيت منفرد بعيداً عنهما.
قضى شادي أيّامه الأولى في المنزل الجديد في متعة وفرح، آخذاً إجازة من الدّراسة، مستمتعاً مع الأصحاب، مُجرِّباً كلّ ما لذَّ وطاب من السّجائر والمشروبات والليالي الحمراء. حتى استأنس هذه الحياة، واعتاد عليها، فطلب المزيد منها، وتاق إلى ما لم يكن قد وصل إليه، سأل أصحابه أن يأتوه بأنواع جديدة من الكحول والمهدِّئات والمُسكِّنات والمخدّرات. سمع الوالد فأرسل إليه يستدعيه، لكنَّه أنكر بأنَّه يعيش حياة كهذه، رغم أنّه لم يكن قادراً على إخفاء شكل جسده الهزيل، وكحَّته (سُعاله) وروائح السّجائر والمشروب. عاد والداه ليرجُواه أن يرحم نفسه، ويخفِّف عن ذاته ويأخذ فرصة لقليل من الرّاحة، لكنَّه ما أن يَعِد بشيء حتّى يعود عنه وينكث بعهده وفي كلّ مرّة كان يعيد الكرَّة. لكنْ ولأنَّ شادي اليوم بات مدمن هيرويين، ولأنَّ الشّرطة ألقت القبض عليه أكثر من مرّة، كان لا بدّ له من أن يخضع إلى أوامر الأطبّاء ويعود إلى منزل والديه ليستجمّ ويرتاح ويعطي جسده الفرصة لتُسحب منه المخدّرات.
في البيت، وبعد أن قبل شادي على مضض أخذ الدّواء، جلس يترجّى والديه أن يسمحا له بأخذ شيء من المخدِّر، إذ بدأت أعراض الانسحاب "انسحاب المخدّرات" تضغط على جسده، حتّى تكاد تقطع أنفاسه، لكن والداه رفضا إعطاءه المزيد منها، والرّضوخ له. أخذت أعراض الانسحاب تشتدّ، بدأ صوت شادي يعلو وينخفض، يرجو في البداية ويلوم في النّهاية، يشتم وينتهر ويحمِّل والديه وِزر ما حدث معه حتّى أنهكه التّعب ونام. في منتصف الليل استيقظ مقرِّراً الهرب والعودة إلى ما كان عليه، أخذ حقيبة ملابسه ارتدى معطفه، وطفق يسير في شوارع القاهرة، حزيناً متألِّماً يكاد البرد ينهش جلده، والسّاعة تشارف على الثّانية صباحاً. سار متحيِّراً قلقاً، دموعه السّاخنة تغطّي وجنَتَيه لا يعرف لمَ حدث معه ما حدث، ولمَ وصل به الحال إلى ما هو عليه. هل كان يريد ذلك؟ بالطّبع لا، إذن ما الذي حدث، ولماذا؟
منذ سنتين فقط كانت الدّنيا هادئة، لكنَّه هو من اختار أن يُقيمها ولا يُقعدها. حسناً، قال لنفسه، أنا أعرف بأنّي مخطئ، لكن لِما يحدث معي ما يحدث؟ أ لم أكُن في الأعوام الماضية أحسن حالاً! أنا في السّنة النّهائيّة في كليّة الطّب، كلّ شيء كان متاحاً أمامي، أعيش عيشة الملوك مدلَّلاً، محاطاً بالحُبّ، أرتدي ثياباً بأغلى الأثمان، أسافر إلى كلّ مكان، كلّ سنة إلى بلد جديد، لديّ أبٌ طيّب لا يبخل عليّ بشيء، ما الذي كان ينقصني؟ أشعر اليوم بأنّي عجوز أثقَلَته الهموم، جسدي مُتعَبٌ محمومٌ، أسيرٌ للمخدّرات وعبدٌ لها، لا أستطيع تركها، ومع أنَّها تنال منّي ومن جسدي وتدمِّرني إلّا أنّي لا أقدر على الابتعاد عنها. بعد ساعات، في البيت، اكتشف والداه رحيله، ارتدى الأب ثيابه، انطلق إلى الشّارع يبحث عنه، كان الفجر قد بدأ والشّمس تتثاءب بعد ليل طويل، وتستيقظ لترسل أشعّتها وتنير لذلك الرّجُل الطّيّب طريقه. شادي شادي، بدأ الأبُ بالبحث والدّوَران حول نفسه هنا وهناك، أوقف سيارة أجرة، قال السّائق: حسنٌ وقفت إلى أين؟ أجاب: إلى شوارع القاهرة إلى أيّ مكان أنا أبحث عن ابني. فردّ السّائق: لا تخف سنجده بإذن الله، قلت لي هو ابنك أم حفيدك؟ هل هو طفل صغير؟ كيف سمحت له بالخروج من البيت في هذا الوقت المبكِّر من النّهار؟. كانت ضربات قلب الأب عالية الصّوت، هو ابني وهو شاب وليس طفلاً صغيراً. قال الأب. إذن لا تخف سنجده، هل أغضبته فترك لك المنزل وابتعد؟ سأل السّائق. ربّما فعلت، قال الأب. بعد شارعَين كان شادي يجلس على أحد الأرصفة الباردة، يستند بساعده على حقيبة ملابسه، مُتعَباً حزيناً، يتذكّر صِباه وطفولته، وكيف كان يلعب مع أبيه. في البداية نزلت دمعة على خدِّه تلتها ابتسامة ملأت شفتَيه، تذكّر العَلَم الأبيض، وكيف كان يربطه بعصا صغيرة ويرفعه كي يجده والده ويعرف مكانه، حيث كانا يلعبان لعبة الاختباء.
يا الله ليتني أعود إليه طفلاً صغيراً مثلما كنت، ليته يجدني، سأرفع علماً أبيضاً كي يراني فقد مَلَلت لعبة الاختباء هذه، لكن من أين لي بعَلَمٍ أبيض؟ إنَّه قميصي، خلع عن جسده معطفه، وأخذ يفكِّك أزرار قميصه، خلعه، أمسكه وبدأ يلوِّح به في الهواء. في البعيد شاهد شادي رجلاً عجوزاً، يركض إليه حاملاً علماً أبيض، ويقترب منه. أبي سامحني، ارتمى شادي في حضن أبيه مُسنِداً رأسه على صدره العاري، فقد كان هو الآخر قد خلع قميصه ليصنع منه عَلَماً أبيض. قال الأب: تعال معي. ثمّ وضعا معاً المعطف على كتفَيهما واستنَدا على بعضهما البعض، حَمَلا الحقيبة وعادا.
كلّنا بَعُدْنا بطريقة أو بأُخرى عن الله الآب المُحبّ، فهل ترجع إليه الآن بعد فترة فراق صعبة وقد تكون مريرة؟! إنّه يرفع العَلَم الأبيض في انتظار رجوعك …
أدعوك عزيزي القارىء لسماع برنامج "إسمع وميِّز" عن "تعاطي المخدِّرات"