إنّ الخدمة المسيحيّة أمر أكثر تعقيداً من مجرّد القيام بخدمة، غايتنا الأساسيّة منها أن يتمجّد الله ويُعلَن اسمه بين الشّعوب، لنتوقّف عند هذا الحدّ، وإنّما الخدمة بصفة عامّة هي في الواقع واجب، هي أمر يجب عل كلّ مؤمن القيام به لكي يُتمِّم إرساليّته التي هي في الأصل إرساليّة الله، والتي هي جزء من طبيعة هذا الإله، وهي تظهر في أبسط ثنايا تاريخ الله مع البشر.
إنّ الخدمة يجب أن تكون انعكاساً للاهوت الله وليس للاهوتنا الذي نُكوِّنه من خلال مفاهيمنا الخاصّة للكلمة، وإنّما يجب أن يرتكز على لاهوت الله الذي هو مثبّت في كلمته الحيّة والذي تجسّد خلال خدمة يسوع ابنه على الأرض. هذا هو أساسنا اللاهوتي للخدمة وهكذا يجب أن تُبنى خدمتنا وإرساليّتنا لكي نتمكّن من تحقيق هذه المهمّة.
ليس أمراً سهلاً أن نحدّد في بعض الكلمات ماهيّة الخدمة، ولكن الكتاب المقدّس يساعدنا لكي نقوم بتحديد هذا المفهوم فهو مرجعنا الأساسي في تعريفنا للخدمة، قال يسوع في إنجيل يوحنّا 20: 21 . ومن هنا نعلم ونتيقّن أنّ إرساليّتنا التي هي خدمتنا، هي عبارة عن مواصلة لعمل يسوع الذي قام بنفسه بمواصلة عمل الآب. وبواسطة الشّركة التي تربطنا مع الآب من خلال اتّحادنا مع ابنه يسوع المسيح في موته على الصّليب وقيامته ممجَّداً، نستطيع أن نحيا حياة الانتصار ونمارس هذا السّلطان المُعطى لنا من خلال قوّة الرّوح القدس العامل فينا. إذاً بمعزل عن هذا الثّالوث لا نستطيع أن نقوم بأي إنجاز وحيدين، وإنمّا سيكون كلّ عملنا هو تركيز على ذواتنا لكي نمجّدها ونحقّق لها كلّ رغباتها، وهذا بالتّأكيد ليس هو مفهومنا للخدمة، وإنمّا العكس صحيح. إننّا نرى الخدمة، إنمّا مركزها الثّالوث الذي يستخدمنا لكي نتمّم ما سبق وأعدّه للعالم، ولسنا سوى وسيلة وأداة في يد الرّبّ يقوم بتشكيلها وتطويعها بشكل يتماشى مع إرساليّته الخلاصيّة التي هي لجميع البشر بغضّ النّظر عن لونهم، شكلهم، عرقهم أو ديانتهم ومعتقداتهم.
فالخدمة إذاً هي دعوة قدّمها الله لنا في لحظة تجديدنا، وكان يقوم في ذات الوقت بتشكيلنا مستخدماً العديد من الظّروف المحيطة بنا لكي يعلّمنا دروساً تكون نافعة لخدمتنا. وهو لا يزال يشكّل في شخصيّاتنا طالما لا زلنا نعيش فوق هذه الأرض. هذه الشّخصيّة يجب أن تعكس صورة الله لكي يراها النّاس ظاهرة من خلال الأعمال التي نقوم بها، فيقومون بتمجيد اسمه (إنجيل متّى 12: 7
).
فخدمتنا بالأساس هي مشاركة الآخرين بما يعمله الله فينا وبواسطتنا، وهي انصهار وذوبان لذواتنا ومبادئنا في شخصيّة الله لكي يزيد هو وننقص نحن، مركّزين أنظارنا على الله الآب والله الابن كمصدر ملهم للخدمة. فكنائسنا تحتاج إلى مفهوم صحيح للخدمة لكي تستطيع أن تجيب عن أسئلة تتحدّاها، وتتمكّن من أن تواجه هذه التحدّيات التي يضعها أمامها المجتمع والمحيط الذي تخدم فيه. وليس أفضل من أن يكون القائد أو الرّاعي هو مصدر معلوماتها بدلاً من أن يكون العالم، لأنّ الله هو مصدر مفهوم الخادم للخدمة.
وبالتّالي فنحن لا نخترع خدمة أو نبتكر أموراً جديدة، فكلّ ما نقوم به هو تلبية لدعوة الله لنا. فنحن لا نبتكر أيّ شيء وإنمّا ربمّا نبتدع طُرُقاً ووسائل جديدة للقيام بما نحن مدعوّون للقيام به. وعندما نركّز على خدمة يسوع، نجد أنّ يسوع كان شخصاً ثوريّاً وانقلابيّاً في طبيعته. لقد ثار على أخلاقيّات المجتمع الذي خدم فيه، لأنهّا لم تكن تعكس مبادىئ الله الأخلاقيّة التي أعطاها وعلّمها لإسرإئيل، لذلك رفض اليهود، وخاصّة رجال الدِّين طرحه، هؤلاء الذين اعتُبِروا قادة وخدّام الشّعب. فقد كان كلّ ما علّمه وقام به يسوع غريًبا عليهم وصعباً على أذهانهم، لأنّ مفهومهم للخدمة لم يكن مبنيّاً على مفهوم إلهي، فلم تكن خدمتهم تجسديّة كما كان الحال مع يسوع. لقد انعزلوا عن المجتمع واختاروا أن يهتمّوا بمؤسّساتهم أكثر من اهتمامهم بوظائفها التي لأجلها تأسّست. على عكس ذلك، لم يكن يسوع بعيداً عن مجتمعه بل انصهر فيه، عاشر المنبوذين والزّناة والعشّارين وكلّ من هم خارجون عن شريعة الفرّيسيّين، فلم يحتملوا هم ذلك. كان يسوع جزءاً من مجتمعه لذلك استطاع تغييره، وبواسطة الاثني عشر الذين فتنوا المسكونة. ونحن اليوم تلاميذ، تلاميذ هؤلاء التّلاميذ مدعوّون أيضاً لأن نفتن المسكونة بمحبّتنا وتبشيرنا وخدمتنا.
من الغريب أن يختار شخص ما أن يؤمن بأمور لا تؤدّي به إلى الخلاص من عبئ الدّينونة على أن يؤمن بالمسيح، فهذا الأمر غير مقبول إنْ كنّا نؤمن أنّ المسيحيّة هي الوحيدة التي تقدّم خلاصاً مجّانيّاً تعبيراً عن النّعمة الإلهيّة، التي لا نجدها في أيّة ديانة أو تفكير فلسفي/ روحي في العالم. وهنا نحتاج أن نتساءل لماذا يحدث ذلك؟ وربّما السّبب يعود بالأساس بأنّنا كخدّام ابتعدنا عن قلب الإنجيل أيّ النّعمة، فعمل الله الخلاصي هو تعبير عن النّعمة، ومحبّته الغير المشروطة هي تعبير أيضاً عن النّعمة، وعمله الفدائي هو النّعمة في حدّ ذاتها، ولا يمكن لإنسان مُثقَل بعبء الخطيّة أن يرفض هذه النّعمة، إذا فتَح قلبه لله لكي يغمره برحمته ومحبّته.
بقلم / بسمة دبور جاء بالله