صدّق أو لا تصدّق، لقد زرت ميدان التّحرير قبل بضعة أيّام أثناء زيارتي للعاصمة المصريّة، القاهرة. في ذلك الوقت كانت التّحضيرات على قدم وساق لجمعة الغضب الثّانية، وكان النّقاش والجدال عن جدوى تلك الجمعة على أشدّه كما يقال.
لكنّني لم أكتب هذه المدوّنة كي أناقش فائدة الخروج في جمعة ثانية أو ثالثة أو حتّى ثورة جديدة أو مضادّة. بل أكتب مدوّنتي هذه كي أتكلّم عن مشاهداتي في ميدان التّحرير في تلك اللّيلة.
تنقسم مشاهداتي في ميدان التّحرير إلى جزأين هامّين جدّاً. وهنا أعتذر من السّادة القرّاء المصريّين إن لم تكن مشاهداتي صحيحة أو لا تنسجم مع وجهة نظرهم، وأنا أعترف بأنّ ما سمعته وشاهدته هو خبرة ساعتين أو ثلاثة فقط لا غير، لذلك أنا لا أقيّم الوضع في مصر، بل أتكلّم من وجهة نظر شخص غريب زار المكان ويريد أن يعلّق.
1. رأيت مقداراً من الحريّة والدّيموقراطيّة لم أشاهده في أيّ بلد عربي آخر. فما شاهدته هو عدّة مجموعات من النّاس، أقلّ مجموعة 5 أشخاص، وأكبر مجموعة 25 شخصاً. وكلّ مجموعة يتناقش فيها شخصان أو ثلاثة حول التّطورات في مصر، والجميع يصغي إليهم. حوار هادئ، حضاري من دون شتائم أو كلام بذيء، حوار يشمل كلّ المواضيع، فلا وجود لخطوط حمراء أو رزقاء. يستمع المحاورون لبعضهم البعض ويقدّرون وجهة النّظر الأخرى مع أنّهم لا يتّفقون معها. حوار مختلط بين رجال وسيّدات، يتكلّمون بكلّ جرأة وحريّة. لكن ما لفت نظري، مجموعة صغيرة جدّاً مؤلّفة من 6 أو 7 أشخاص، المتحاوران فيها هما رجُل ناضج (إذ غزا الشّيب شعره) وشاب صغير في السّنّ ربّما عمره لا يتجاوز 15 سنة. ومع ذلك وجدت الرّجُل الخمسيني يستمع للشّاب الصّغير، ويتكلّم إليه بكلّ احترام وتقدير. كنت أرى الفرح في عيون النّاس وهم يتناقشون ويتحاورون ويحاولون إثبات وجهة نظرهم، فهذا المقدار من الحريّة ومن الدّيموقراطيّة لم يكن موجوداً وقد حلموا به طويلاً ودفعوا أغلى الأثمان للحصول عليه.
2. تنقّلت بين أغلب المجموعات واستمعت إلى وجهات النّظر كلّها تقريباً. وكنت أدوّن على ورقة أهمّ النّقاط التي ذُكرت. وعندما عدت إلى الفندق في تلك اللّيلة جلست وبدأت أفكّر في كلّ نقطة على حدى. وما وصلت إليه أنّ هناك ضياع كبير جدّاً في الأفكار وعدم وضوح في الرّؤية خاصّةً للمستقبل. فهناك من يقول بأنّ الثّورة خرّبت أكثر ممّا أصلحت. وآخَر يعلن أنّ الثّورة لم تنتهي، ولا زال هناك الكثير كي يُعمل. والبعض يدعو إلى إعلان نهاية الثّورة، وإعطاء فرصة للحكومة الجديدة كي تعمل. وقلّة تتكلّم عن صفقات أبرمت على حساب الشّعب والثّورة معاً، فهم غير راضين عن الطّريقة التي أُخرجت فيها الأمور، ويشعرون بالغُبن. هذه الأفكار ربما تعبّر عن الدّيمقراطيّة الموجودة في البلد، وهذا جيّد، لكنّ الضّياع يكمن في أنّ كلّ واحد من المحتاورين لا يحمل رؤية للمستقبل، فالمشاكل الإقتصاديّة والإجتماعيّة والتّراكمات في القضاء والأمن كثيرة جدّاً. والمشكلة أنّ أيّ من هؤلاء لا يقدّم رؤية للحلّ أو حتّى مقاربة واقعيّة لطريقة الخروج من هذه الأزمة.
وكَوني من سوريا، وكانت الأحداث على أشدّها في سوريا ولا تزال، اضطرب قلبي وخفت أن نقع كسوريّين في مثل هذه الدّوّامة الكبيرة والمشاكل العويصة التي يصعب الخروج منها بسهولة. فرغم تكلفة الحريّة الكبيرة التي يدفعها السّوريّون كلّ يوم، هناك ما هو أسوء ينتظرهم وهو مرحلة الضّياع التي أصلّي ألّا تطول لا في مصر ولا في سوريا. فهذه مرحلة إنتقاليّة لا بدّ منها عند كلّ مفصل كبير يمرّ فيه أيّ بلد. لكن المهمّ أن نعرف كيف نخرج من هذه المرحلة الإنتقاليّة بأقلّ الخسائر وبأكثر دروس نتعلّمها للمستقبل ونطبّقها في وقت الاستقرار. وهنا تذكّرت كلمات السّيّد المسيح عندما قال: "وَمَنْ مِنْكُمْ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بُرْجًا لاَ يَجْلِسُ أَوَّلاً وَيَحْسِبُ النَّفَقَةَ، هَلْ عِنْدَهُ مَا يَلْزَمُ لِكَمَالِهِ؟ لِئَلاَّ يَضَعَ الأَسَاسَ وَلاَ يَقْدِرَ أَنْ يُكَمِّلَ، فَيَبْتَدِئَ جَمِيعُ النَّاظِرِينَ يَهْزَأُونَ بِهِ، قَائِلِينَ: هذَا الإِنْسَانُ ابْتَدَأَ يَبْنِي وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُكَمِّلَ. (إنجيل لوقا 14: 28 – 30)
لذلك علينا أن نحسب حساب كلّ خطوة نخطوها اليوم كي لا نقع في فخٍ غدّاً. فدعائي لله ألّا نضيع وسط الأفكار الموجودة والإضطرابات، بل أن نركّز نظرنا على حساب النّفقة قبل أن نبدأ بالعمل.