كان داود النبي شاعرا مُجيدا وموسيقيا عظيما. كان يحبّ نظم القصائد وترنيم الأناشيد وعَزْفَها على العود. بعض هذه الأناشيد التي نظمها، قبل ثلاثة آلاف سنة تقريبا، تحدّثنا عن صميم حياة داود. وهي تسمّى "المزامير".
في ذات ليلة صافية كان داود يرعى غنم أبيه في الحقول. وكانت السماء متألقة بالنجوم فتأملها داود معجبا، فنظم النشيد التالي الذي نجده في سفر المزامير:
"أيها الرب سيّدنا،
ما أمجد اسمك في كل الأرض....
جعلت جلالك فوق السماوات.
حينما أرى سماواتك عمل أصابعك،
والقمر والنجوم التي كوّنتها
فمن هو الإنسان حتى تذكره،
وابن آدم حتى تهتم به؟ "
كان داود يقف متعجّبا وهو يتأمل في عظمة خليقة الله، ولكن ما أدهشه حتى اكثر من ذلك هو ان الله يذكر الإنسان ويفتقده ويعتني به...
وفي مناسبة أخرى نظم داود قصيدة تكلّم فيها عن الله مؤكّدا أن الله هو راعيه الأعظم، وأن راعيه يقدّم له حياة مباركة:
"الرب راعيّ
فلا يُعوِزُني شيء.
في مراع خضر يُربضني.
إلى مياه الراحة يُورِدني.
يردّ نفسي.
يهديني إلى سبل البرّ
من أجل اسمه.
أيضاً إذا سِرتُ في وادي ظل الموت
لا أخاف شرّاً، لأنك أنت معي.
عصاك وعكّازك هما يعزّيانني.
ترتّب قدّامي مائدة
تجاه مضايقيّ.
مسحتَ بالدهن رأسي.
كأسي ريّا.
إنما خير ورحمة يتبعانني
كل أيام حياتي
وأسكن في بيت الرب
إلى مدى الأيام".
ولكن حياة داود - وحياة كل إنسان منا - لا تنتهي عند الموت. فبعد الموت توجد الأبدية. وقد عبّر داود، في أحد مزاميره، عن رجائه في حياة سعيدة بعد موته، فقال :
"لأسكُنَنّ في مسكنك إلى الدهور.
أحتمي بستر جناحيك
لأنك أنت يا الله استمعت نذوري.
أعطيت ميراث خائفي اسمك".
كان لداود رجاء عجيب: كانت له على هذه الأرض حياة مباركة، ثم لم يكن الموت ليُسبّب له خوفا لأنه يعلم أن الله معه. وأخيرا، كان لداود رجاء بالحصول بعد موته على حياة أبدية سعيدة مباركة.
هل لك مثل هذا الرجاء المبارك؟ يمكنك الحصول عليه، فإن داود كان إنسانا مثلنا جميعا. كان يعلم أنه خاطئ مثل جميع الناس على الأرض. وكان يعلم أن الخطية التي في داخل قلبه هي التي تدفعه إلى ارتكاب الشرّ بالفعل والفكر. ولقد كان شديد الحزن والندم على ما ارتكب من خطية. واعترف بها إلى الله طالبا منه الصفح والغفران. وإذ كان يعلم انه لا يستطيع شيئا لتغيير قلبه المملوء بالخطايا والشهوات الرديّة طلب من الله أن يُجرِي في قلبه هذا التغييرَ العجيب.
واليك الآن نَصَّ مزمور داود :
"ارحمني يا الله حسب رحمتك.
حسب كثرة رأفتك امحُ معاصيّ.
اغسلني كثيرا من إثمي
ومن خطيّتي طهرني.
لأني عارف بمعاصيّ
وخطيتي أمامي دائما.
إليك وحدك أخطأتُ
والشر قدّام عينيك صنعت
لكي تتبرر في أقوالك
وتزكو في قضائك.
هأنذا بالإثم صُوِّرتُ
وبالخطية حَبِلَتْ بي أمي.
ها قد سُررتَ بالحق في الباطن
ففي السريرة تعرّفني حكمة.
طهرني بالزوفا فأطهر.
اغسلني فأبيضّ أكثر من الثلج.
أسمعني سرورا وفرحا.
فتبتهج عظام سحقتها.
استر وجهك عن خطاياي
وامح كل آثامي.
قلبا نقيا اخلق فيَّ يا الله
وروحا مستقيما جدِّد قي داخلي.
لا تطرحني من قدّام وجهك
وروحَك القدّوس لا تنزعهُ مني.
رُدَّ لي بهجة خلاصك
وبروح منتدبة اعضدني.
فأعلّم الإثمة طُرُقَك
والخطاة إليك يرجعون.
نجّني من الدماء
يا الله اله خلاصي.
فيسبّح لساني بِرَّك.
يا رب افتح شفتي
فيخبر فمي بتسبيحك.
لأنك لا تُسَرُّ بذبيحة وإلا فكنت أقدمها.
بمُحرَقة لا ترتضي.
ذبائح الله هي روح منكسرة.
القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقِرُه".
في هذا المزمور يعطينا داود النبي دليلا على صدق توبته: توبة إنسان يندم على ما اقترف من خطية، ويصمّم على الإقلاع عنها، ويتوسّل إلى الله مستغفرا.
ولكن كيف للإله القدوس العادل أن يغفر الخطية ؟ لقد تكلّم داود في كثير من مزاميره عن واحد سوف يكون هو الذبيحة عن الخطية، ويتعذّب، ويموت ميتة فظيعة ، ويكون عرضة للهزء والاحتقار، ويُعامَل بمنتهى القساوة. قال داود في جملة ما قال بهذا الشأن:
"كل الذين يَرَونَني يستهزئون بي.
كالماء انسكبتُ.
انفصلتْ كل عظامي.
يقتسمون ثيابي بينهم
وعلى لباسي يقترعون.
ثقبوا يديّ ورجليّ.
العار قد كسر قلبي".
من هو الشخص الذي تكلّم عنه داود؟ لم يتكلّم عن نفسه، لأن الأمور التي ذكرها لم تحدث له ولم تتحقق فيه. بقي إذاً انه تكلّم عن شخصٍ آخر كان سيموت لأجل خطايانا مثقوب اليدين والرجلين.